Thursday, March 31, 2011

ستة وثلاثون عاماً بدون ام كلثوم

تغرد علي مسرح الأولمبيا بباريس في نوفمبر 1967



36 عاماً من دون حب، وهجر، وقمر، وليل، ونجوم، وسهاد، وظلم، وحنين،
وفرح، ودموع، ورقة، وعذاب ··
36 سنة من دون "خميس" يعيش العرب حفلته الشهرية، ليطوف الصوت الرائع على كل البيوت، منادياً الأحلام من رقادها، متحرشاً بالعواطف والأحاسيس، مداعباً رموشاً غفت على وعد لقاء الحبيب، ومآق جف حنينها إلى ماضٍ تتذكره بلوعة ·


من دون "الست" لا مكان أو زمان، بل فضاء ضاج، صداه قاتل، لأن الراحلة كانت ترسم في كل أغنية خارطة حتى يتسلل الحب عبرها إلى قلوب مرهفة، وأخرى قدت من صوان، فإذا الجميع في الأسر سواء، تغني لوعتهم، تشدد عشقهم، تترنم بغيرتهم، تهمس غدرهم، تحدد مواعيدهم، وهي في وقفتها على خشبة المسرح آسرة، تفترس اللحظة لتولد ترددات الغرام، فتشرق النظرات، وتلهو الملامح، وتمرح الكلمات على رضاب، حلاوتها بوح، وشذاها اعتراف ·

بعد 36 سنة على رحيل كوكب الشرق اكتشفنا أننا ضائعون في نفق مظلم، قادنا إليه جحيم الأيام، غارقون في اللاحب، لأنهم نثروا الملح على سهوب عواطفنا، واقتلعوا التناغم من صدورنا، فأعادونا إلى عبودية المراحل، التي حررتنا منها أم كلثوم، لتتهم بأنها مخدر العرب، إلا أن قوميتها ردت، وصدت، وأعلنت أن الفن صنو الثورة، ودعم الرجال ·

فالست لم تترك العروبة جريحة بعد 1967، ولا خذلت مصرها وناصرها في زحمة الأوجاع، لأنها انطلقت إلى العالم تبثه روح انتصارنا بالرغم من النكسة، ولا تراجعت عن فلسطينها، فإذا بصوتها الهادر يعلن الحق ارادة لا تركع وسلاح لا يخذل ودماء تفور بالقومية، والكون يصغي إلى أم كلثوم صوتاً تحول إلى جسر تعبر عليه الأمم نحو مصر لتسمع قصة النيل الثائر والبطل جمال عبد الناصر، الذي ما ان انتهى جسداً، حتى انتهت معه عاشقة الأصالة و23 يوليو 1952 ·

لم يكن الإنفتاح زمن كوكب الشرق، ولا تجار السياسة ولقمة الفقراء وشرف الأرض، والتنازل عن اللاءات، ولا أنصار التطبيع مع العدو الصهيوني وتقديم الوطن العربي ذبيحة لقوى العدوان، فهي قاومت وهم تنازلوا، وكان لا بد من حدوث الصدام بين مجموعة السادات وصاحبة "طوف وشوف"، فإذا بالوهج ينزوي، ويمرض، ويموت، ليكون له استفتاء ولا أروع على امتداد الأرض العربية .

36 عاماً والحب يتيم بعد العمالقة، لم يعد له القصبجي، ورامي والسنباطي، وعبد الوهاب والشناوي، فالزمن تغير، والغناء تحول، والكلمات دخلت مجال التجارة، أما الألحان فقد رزحت تحت وطأة الغريب والتغريب·· لم تعد لـ "التخت" مهابته، والكل في انسجام يغطي الأجواء بعذب الشدو وروعة العزف وسمو السلطنة، والصالة تتماوج آهات وأنيناً وحنيناً·
فقد غنت الأجساد والتقاطيع والملامح، وترك الصوت على قارعة النسيان، يندب ما كان، معلناً زوال عهد الطرب، لمصلحة ايقاعات فقدت صوابها، فارتفعت في الأجواء صخباً وضجيجاً، في تظاهرة فوضى، حطمت الثوابت والأصول والقواعد، وقضت على فرص التطوير، وهدمت كل رجاء بغد غنائي أفضل ·

بعد أم كلثوم دخلت الأغنية في نفق مظلم على مراحل، فلا الأصوات القادرة ثبتت في مواقعها، لعدة أسباب خارجة عن ارادتها، ونابعة من الهجمة التي تعرضت لها من قبل المتلاعبين بالأصالة، الرافضين لأي قيمة فنية خوفاً من تأثيرها على الأغنية - السلعة، التي حملوها كل مكاسبهم وأحلامهم· ولا الكبار استمروا على الساحة، بعد أن أصابهم الملل أو العجز، أو تعرضوا للمحاربة والتجاهل والاستهتار، أو اقتربت منهم النهاية ·
ولا الرقابة فرضت وجودها لتقاوم ذلك الإنجراف الفني الرهيب، الذي جمع حوله ثلة من نجوم السرعة واللحظة والأغنية الواحدة والاحتكارات الانتاجية والوساطات، الذين حولوا الأغنية إلى أرصدة مصرفية، بعد أن شوهوا أذواق الشباب، وزرعوا السم في آذان الجمهور، فإذا به يعتاد على ما ليس كلثومياً، فيطلق الروعة ليرتبط بالممسوخ ·

انه زمن عجيب بعد الست، لم يعد أحد يهتم بالوطن، ولا بالقومية العربية، رافعاً من شأن الشعب، داعياً الأعداء إلى النزال، لأن السلاح هو رمز للحياة والبناء والارتقاء، والقتال بوصلة للوصول إلى النصر، فالكل دوامة "العصر" في عبث وطني، ولهو قومي، وتجاهل للأرض وهي تغتصب، وللأجواء في احتراقها، لأن الغناء الملتزم بكل بساطة .. غير مربح ·

36 سنة ليست بالفترة الطويلة، لكن الخراب فيها كان هائلاً، مرعباً ··
سقطت الأغنية، مثخنة بجروح العابثين، ومع ذلك فان الصوت لا زال يأتي عن بعد، وحيداً، يغني رقة الحبيب، والحب المتجدد، والرباعيات ··

بعد تلك الأعوام لا تزال كوكب الشرق تقاتل لوحدها
·


* تشدو فوق أطلال بعلبك في 1966 *