ليلة الأربعاء 15 نوفمبر 1967 والست تشدو في عاصمة النور
الأربعاء 15 نوفمبر 1967 مسرح الأولمبيا باريس
أجواء الحفلة الثانية
وصف لحادت السقوط الشهيرة لحظة بلحظة
لم تحظ الحفلة الثانية لأم كلثوم بالأولمبيا في المصادر الفرنسية بنفس الاهتمام الذيحظيت به الحفلة الأولى ، والمعلومات عن أجوائها شحيحة حتى في المصادر العربية ، ولعل السبب يعود إلى أن الحفلة الثانية في أي بلد عادة ما تقام كتعويض للمتخلفين عن الحفلة الأولى ، وجميع الكبار ووسائل الإعلام كانوا قد حضروا بكثافة أكبر في الحفلة الأولى ، إلا أن ما خلد هذه الحفلة في أذهان عشاق أم كلثوم هو حادثة السقوط
ابتدأت الست في وصلتها الأولى بأغنية أمل حياتي ثم أدت في الوصلة الثانية رائعة إبراهيم ناجي ورياض السنباطي الأطلال ثم اختتمت بأغنية فات الميعاد ، في الثلث الأخير من أغنية الأطلال وعندما دخلت السيدة في كوبليه هل رأى الحب سكارى مثلنا قام شاب في مقتبل العمر فارع الطول أنيق الهندام من أقصى الصف الذي كان يتواجد على يسار أم كلثوم بخطوات مسرعة وبحركة رياضية رشيقة لا توحي أنه كان سكران قفز إلى المسرح وأم كلثوم مندمجة في الغناء لم تنتبه إلى وجوده ، استلقى الرجل أرضا وأمسك برجل أم كلثوم يلثمها انتبهت الست مذعورة لكن المعجب المجنون كان قد شد رجلها بقوة فحاولت التخلص منه فوقعت الكارثة حدث كل هذا ولم يتحرك رجال حفظ النظام في القاعة الذين كانوا بعيدين كما لم يتحرك أعضاء الفرقة الموسيقية ، سقطت أم كلثوم على ظهرها واستقلت على الأرض حتى كادت مؤخرة رأسها تصطدم بأرضية المسرح وتقع الكارثة الكبرى لا قدر الله ، في غضون كل ذلك انكشف ثوب السيدة وبدت ساقاها إلى ما بعد الركبة بقليل كانت صورة جدّ مؤثرة لامرأة جاوزت الستين تتعرض لخطر غير مألوف من مخاطر المهنة ، آنذاك قام أفراد فرقتها من أماكنهم يساعدونها على النهوض ثم صعد عملاقان من أفراد حفظ النظام بالقاعة وأمسكا المعجب المجنون وأنزلاه من المسرح مطأطأ الرأس .
في عددها الصادر بتاريخ 25 نوفمبر 1967 نشرت مجلة الحوادث الفرنسية الشهيرةصورتين نادرتين لحادثة السقوط إحداهما شائعة والثانية نادرة أقدمها لكل من تابع تحقيق حفلات باريس ..!
عندما أستلقي ذلك الرجل علي قدم الست
وسقطت الست
الفرقة تحاول مساعدة السيدة أم كلثوم
يعترف الفرنسيون أنفسهم أن زيارة أم كلثوم لباريس وفي الظرفية السياسية التي جاءت فيها كانت حدثا سياسيا كبيرا ، ولقد وعت السيدة أم كلثوم هذه الحقيقة ، فبمجرد استقرارها بباريس بعثت برقية إلى الرئيس الفرنسي الجنرال شارل دوغول التي كانت تكنّ له إعجابا كبيرا قالت فيها :
Séjournant dans la grande France , je voulais saluer en vous votre action en faveur de la justice et la paix . Madame Oum kalsoum
وأنا أحل بفرنسا العظيمة ، أردت أن أحيّي فيكم وقوفكم مع العدالة وإلى جانب السلام . السيدة أم كلثوم
كتب أكثر من مصدر أن أم كلثوم كتبت البرقية بخط يدها بلغة فرنسية بليغة ، لكني أرجح أن تكون البرقية بخط وأسلوب السفير المصري بياريس آنذاك السيد عبد المنعم النجار الذي كان أحد جنود الخفاء لزيارة باريس .
قبل أن تغادر أم كلثوم فرنسا جاءها رد الرئيس كالتالي
j'ai senti dans votre voix madame toutes les vibrations de mon cœur et celles des français . Charles de Gaulle
أجواء الحفلة الأولى الاثنين 13 نوفمبر 1967 صالة الأولمبيا باريس
الذين ذهبوا لسماع أم كلثوم شهدوا قداسا دينيا جريدة فرنس سوار
العمال بجانب السفراء وأمراء الأسرة الحاكمة بالسعودية في الصف الأول وأعضاء من الأسرة المالكة بالمغرب في القاعة وأنباء عن حضور ملك الأردن متنكرا .
الفرنسيون واليهود الشرقيون كانوا في الموعد. أرقام قياسية لأم كلثوم في الاولمبيا : حصلت على أعلى أجر يناله مطرب من الاولمبيا حتى ذلك التاريخ وانتزعت أكبر مدة تصفيق متواصل وصارت أول مطرب تعقد له جلسة استراحة بعد أداء أغنية واحدة فقط . الحفلة امتدت لأكثر من خمس ساعات
مدخل صالة الاولمبيا ليلة الحفلة
سيبقى يوم 13نوفمبر 1967 يوما مشهودا في تاريخ صالة الاولمبيا ، غصت جميع جنبات الصالة بالحضورمن كل أطياف الطبقات الاجتماعية العمال بجانب السفراء ، أمراء الأسرة الحاكمة بالسعودية حجزوا الصف الأول وكان في القاعة أعضاء من الأسرة المالكة في المغرب وتحكي الأسطورة أن الملك الحسين بن طلال عاهل الأردن حضر الحفلة متنكرا وحضر يقول كوكاتريكس زوار غير مألوفين في الأولمبيا قطعوا الاف الكليومترات لحضور الحفل ، الفرنسيون احتلوا 20 % من المقاعد رغم حاجز اللغة ، اليهود الشرقيون حضروا بكثافة ويروي كوكاتريكس مدير الاولمبيا أنه لمح أحد أصدقائه اليهود فاستغرب من وجوده فأجابه الأخير إنها أم كلثوم . في الصالة كما في الخارج في شارعكان هنالك مخبرون سريون تحسباً لوقوع أحداث قد تأتي من بعض المناوئين للقضية العربية ولحضور أم كلثوم لباريس خصوصا الجماعات الصهيونية. من الناحية التاريخية صارت أم كلثوم ثاني امرأة إفريقية تغني في الأولمبيا بعد الجنوب إفريقية مريام ميكيبا لكنها صارت أغلى نجم يغني بالاولمبيا بحصولها على أعلى أجردفعته الصالة لفنان عالمي حتى ذلك التاريخ.
حضرت أم كلثوم كعادتها قبل بداية الحفل بساعة ، رفضت ولوج الغرفة المخصصة لاستبدال الفنانين لثيابهم التي هيئت لها وملأت بالورود وجلست على الكرسي تنتظرساعة الصفر
ثومة تستعد للغناء في باريس
رفع الستار وظهرت أم كلثوم ترتدي فستانا أخضر وورائها أفراد فرقتها الموسيقية بلباس السموكينغ ، ضجت القاعة بعاصفة من التصفيق ويقول كوكاتريكس إنه لم يشهد في تاريخ الاولمبيا كله تصفيقا مثل الذي استقبلت به أم كلثوم فقد دام التصفيق المتواصل عشر دقائق كاملة مما شكل رقما قياسيا جديدا في الأولمبيا ، أثناء عزف المقدمة الموسيقية الذي دام سبع دقائق ظلت أم كلثوم جالسة على الكرسي ترد برأسها على تحايا معجبيها أدت الوصلة التي دامت ساعة وعشرون دقيقة ثم توقفت في جلسة استراحة للجميع وكانت تلك أول مرة في تاريخ الأولمبيا تعقد جلسة استراحة بعد أداء المطرب أغنية واحدة فقط بعدها أدت الوصلة الثانية وكانت هنالك جلسة استراحة ثانية ثم الوصلة الثالثة ، كان تجاوب الجمهور كبيرا وعبرعن انسجامه بشتى الطرق بل إن البعض صعد المسرح محاولا الاحتكاك بالسيدة وتقبيلها . استمرت الحفلة أكثر من خمس ساعات ، فقد امتدت من التاسعة وخمسة وعشرون دقيقة مساء إلى الثانية وخمسة وثلاثون دقيقة صباحا كان حفلا كما قال الفرنسيون خارج النظم المعتادة، ويقول كوكاتريكس أن المشهد الذي علق بذاكرته حين خروج الجمهور كان أرضية الصالة التي ملأت بقشور الفستق والفول السوداني وقتينات ماء الحياة ، كانت هذه الحفلة حدثا إسثتنائيا لن يتكرر حسب تعبيركوكاتريكس
شاب أستبد به الوجد فصعد إلي المسرح يقبل يد أم كلثوم
ماذا قالت الصحافة الفرنسية في أعقاب الحفلة الأولى؟ في عددها الصادر بتاريخ 14 نوفمبر 1968
جريدة لوفيغارو اليمنية الواسعة الانتشار
تخص الحفلة الأولى بتغطية خاصة بعيد منصف الليل كانت أم كلثوم لا تزال تغني A minuit et demi Oum Kalsoum chantait toujours
للمرة الأولى منذ أن وجدت صالة الاولمبيا ، تمت جلسة الاستراحة هذه الليلة عقب الأغنية الأولى التي كانت طويلة وامتدت لساعة وعشرين دقيقة ، فالسيدة أم كلثوم النجمة الأولى في العالم العربي لم تعتد أن تقدم أعمالا ضحلة لاتحتاج إلى جهد وطول نفس . كان كل شيء غير معتاد بدء بالصالة حيث جلس عمال البناء مع السفراء جنبا إلى جنب ، في ركن ما في الصالة تخفى الحسين ملك الأردن الشاب (لم ألمحه شخصيا لكن هكذا قيل لي) ، وكان هنالك الرسام كارزو المسلم الديانة (وهو أمر كنت أجهله ) ، بجانب مجموعة كبيرة من رجال الأمن . وصلت السيدة أم كلثوم ساعة قبل بداية الحفل تتبعها مجموعتها المتكونة من تسعة وثلاثين فردا، رفضت ولوج مقصورة استبدال ثياب الفنانين التي أعدت لها وملأت بالورود ، وجلست على كرسي خلف الستارة تنتظر الجمهور كما ينتظر قائد عسكري العدو في ساحة المعركة . في غضون الربع ساعة الأولى من وصلتها لم تقم بشيء يذكر سوى الجلوس والرد بإيماءات صغيرة برأسها لتحية عاصفة التصفيق التي اجتاحت القاعة ، كان مجرد حضورها يثير نوبات من الهستيريا وكان عشاقها يصعدون مقاعدهم بأرجلهم في جنون يلوحون بأيديهم ويطلقون صيحات في الهواء الرطب هي أقرب إلى همهمات غير مفهومة . إن هذه الظاهرة تتجاوز كونها مجرد حدوثة أو طرفة ، ويعترف المتخصصون أنه لو قدر للعالم العربي أن يعرف وحدته يوما فلا شك سيجدها حول أم كلثوم . بعيد منتصف كانت لا تزال تغني ، ويتخوف أن لا تسجيب لتطلعات عشاقها في حفلها الثاني الذي سيعقد
تعليق الصحف العربية علي الحفلة
ماذا قالت الصحافة الفرنسية في أعقاب الحفلة الأولى؟ في عددها الصادر بتاريخ 14 نونبر 1968 لوموند جريدة فرنسا الأولى تعود لتخص أم كلثوم بمقالة شاعرية جديدة كتبها مبعوثها إلى الحفلة إريك رولو L'astre de l'orient à l'Olympia كوكب الشرق في الأولمبيا
ما إن رفعت الستارة إلا وبدأ الهيجان ، كانت الصالة تتصدع من التصفيق الحاد ، ظهرت كوكب الشرق التي أسرت العرب في مملكتها لعقود من الزمن ، ولمدة فاقت أربع ساعات سحرت أم كلثوم ملكة الطرب العربي جمهورها .
والمصرية قلما غادرت عاصمتها ، فعشاقها يحجون لسماعها كما يقصدون مكة ، فلحضور حفلتها الشهرية بالقاهرة ، يركب متوسطو الحال القطار أو الباخرة ، ويسـتأجر الآخرون الطائرة أما الفقراء فيتلاصقون حول جهاز الراديو ، مساء الاثنين اضطر مئات الطلبة العرب إلى الاقتصاد في نفقاتهم للحصول على تذكرة الحفلة العجيبة وعبرها متعة استحضار لحظاتها لسنوات قادمة . كان جميع الممثلين الدبلوماسيين العرب من المحيط إلى الخليج الفارسي في الموعد ، وبدورهم أبى أمراء ورجال أعمال من السعودية والكويت والمغرب أن يتخلفواعن حفلة امتدت حتى الثانية صباحا . تمنح هذه العملاقة المقدسة التي جاوزت الستين شعورا بقوة الإرادة ، بالصلابة والشموخ بالنظرة المتسلطة كل سحرها في صوتها العذب وإلقائها البلوي الشفاف . لاتأسر المتفرجين كمجموعة وإنما كل فرد منهم على حدة ، فينشأ حوار حميمي عاطفي صاخب ، ويصير تواصل تام بين خشبة المسرح والصالة قوامه النغم في تأثير سحري لاتقطعه إلا ضربات بالأرجل على الأرض وصرخات النشوة . يثير البعد الشاعري للأغنية طرب البعض ودموع البعض الآخر ، ويطلق الإيقاع العنان لا شعوريا لحركات جسدية فتانة ، ولايتمالك البعض نفسه فيترك مقعده ويتخلع ليرسم خطوات بالرقص ، العيون مغمضة والوجوه كأنها معذبة بتأثير ألم داخلي حاد ، بصوت مخنوق من شدة الانفعال تدخل المطربة بجملة عاطفية معروفة – يبدو أنها المفضلة عند الرئيس عبد الناصر- ويبدو أنها في الظروف الحالية تأخد تأويلا جديدا : أعطني حريتي أطلق يديّا ، وينجلي الحزن العميق الذي خيّم على القاعة فجأة حين تنهي أم كلثوم الكوبليه بصرخة ثائرة : ما احتفاظي بعهود لم تصنها وإلامَ الأسْر والدنيا لديّا .
تحولت الأولمبيا إلي قاعة مدارية لسباق الدراجات في لياليها الكبيرة ، وقفت الصالة تصفق عن بكرة أبيها تصيح سعادتها ... تخطّى بعض الشباب طاقم المحافظة على النظام وغمروا المسرح وأحاطوا بالفنانة يقبلون يديها وأطراف فستانها
في المقال القادم : الحفلة الثانية في باريس ... عندما سقطت أم كلثوم علي المسرح ..!
*** شكر خاص لمنتدي سماعي علي ما يقدمه للهواة من معلومات قيمة موثقة