أم كلثوم والغناء الديني ... صنعته أم صنعها ؟

* تقبل كتاب الله معلمها الأول *

   تؤكد وقائع حياة أم كلثوم الشخصية والفنية حتى رحيلها، تلك التركيبة الفنية لمشاعرها الشخصية ولتكوينها النفسي، مما كان ينعكس أثره مباشرة على خياراتها الفنية، وعلى سلوكها العام، وعلى علاقتها بجماهيرها المتزايدة يوما بعد يوم، والمنتشرة فيما بين المحيط والخليج. وتعتبر الأغنية الدينية في حياة كوكب الشرق علامة فاصلة ليست فقط في تاريخ السيدة العظيمة بل في تاريخ الغناء ككل، أمتازت الفترة التي لمع فيها نجم أم كلثوم الفني بقرب الكلمات الغنائية من الأسفاف والانحطاط الشديد في الذوق  وتزعم تقديم تلك النوعية عدد من المطربين نذكر منهم "منيرة المهدية" و "فاطمة سري" و "بديعة مصابني و "صالح عبد الحي" وتعتبر تلك الفترة أمتداد طبيعي لحالات الأسترخاء الفني الذي تحدث للشعوب بعد الحروب وهذا ما حدث بعد الحرب العالمية والأولي والثانية، إلا أن المادة الفنية التي أستطاعت أم كلثوم تقديمها للجمهور في تلك الفترة كانت ذكية للغاية فأعمالها في تلك الفترة  أمتازت بالرقي في العامية والكلاسيكية في تقديم الفصحي ، ولكن بقت القصيدة او الأغنية الدينية بعيدة عن أتجاه أم كلثوم في تلك الفترة وأحقاً للحق انا لا أدري لماذا أبتعدت أم كلثوم عن تقديم الأغنية الدينية في تلك الفترة ما بين (1926 – 1946 ) وعلي كل حال فإن ما ستقدمه أم كلثوم في الفترة التالية لهذا سيكون له ما يكفي من أثراء الأغنية الدينية في تاريخ الغناء كله ، بدأت الأغنية الدينية او القصيدة بمعني الأصح  في عام 1946 فالشعور الوطني ازاد التهاباً  عقب أنتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945  وهذا ما جعل أم كلثوم تتجه بشكل مباشر الي ما يفيد تلك الحركة الوطنية التي بدأت تطفو علي سطح العلاقات السياسية داخل مصر، وكانت البداية مع شعر أحمد شوقي في  قصيدة "سلو قلبي" التي شدت بها أم كلثوم عام 1946. والمستمع لقصيدة سلو قلبي سيلاحظ الدقة الشديدة في أختيار الأبيات حيث ان القصيدة كتبت في 71 بيت ولكن ام كلثوم أختارت منهم 21 بيتاً ربطت فيها الأحداث الدينية من مدح الرسول بالاحداث  السياسية من خلال تقديم حال المسلمون الاوائل،  وهو ما كان يسبب ضجة كبيرة حين تذاع هذه القصيدة أذاعة حية حيث تظهر الذروة الإنفعالية الجماهرية ويبقي بيت (وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّي *** وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا) علامة فارقة في أستخدام الغناء في نوجيه المستمع  الي أتجاه سياسي معين، وتكرر أم كلثوم الكرة في نفس العام وتعيد الأستعانة مرة أخري بالشوقيات فتغني قصيدة "نهج البردة" وانا شخصياً اعتبر ان هذه القصيدة هي أحدي الدرر الغنائية في تاريخ البشرية كلها، فتناسق وترتيب أختيار الأبيات كانت يفوق الأمتياز  (حيث كتبت القصيدة في 190 بيت غنت منهم أم كلثوم 30 بيت فقط ) والأهم ان الجرعة الدينية كانت أعلي هنا وأكثر تأثيرا لانها توضح السيرة النبوية المطهرة من بداية الدعوة حتي معجزة الأسراء والمعراج وتنتهي أم كلثوم بدعاء مكون من ثلاث أبيات موجه إلي الله لأنقاذ الأمة الإسلامية، وتتوقف أم كلثوم عن الغناء الديني لثلاث عوام وذلك بسبب ظروف حرب فلسطين ثم مرضها بالغدة الدرقية وسفرها للعلاج في لندن ولكنها في أواخر عام 1949 تعود لتقدم أهم قصيدة دينية لها علي الأطلاق وهو قصيدة "ولد الهدي" والتي قدمها شوقي في شوقياته تحت أسم "الهمزة النبوية" وقد أختارت أم كلثوم 34 بيتاً فقط من أصل 129 بيتاً هي كل أبيات القصيدة ، وتظل هذه القصيدة هي القبلي الأولي للمداحين  الصوفيين  في العصر الحديث ، أما عام 1950 فقد غنت فيه أم كلثوم قصيدة "رباعيات الخيام " وسوف أجعل الحديث عن الرباعيات في مقال أخر وذلك لأهمية تلك التحفة الغنائية في حياة أم كلثوم الفنية و لأهميتها أيضاً في حقل الغناء القصائدي، ومع قدوم الخمسينات كان صوتها أم كلثوم قد نضج النضوج الكامل وأصبح في أوج قوته وجماله رغم تعديها سن الخمسين،  فقد طلعت علينا أم كلثوم في مطلع الخمسينات بقصيدة "إلي عرفات الله " من كلمات أحمد شوقي  في وصف مراسم الحج ويوم الحج الأعظم عرفات ،

* تغني إلي عرفات الله لأول مرة في ديسمبر 1951 علي مسرح سينما راديو *

وفي عام 1955 -1956 قدمت الإذاعة أوبريت "رابعة العدوية" للشاعر طاهر أبو فاشا ولم تجد الإذاعة او الشاعر ذاته صوتاً أصلح من تقديم شهيدة العشق الألهي رابعة العدوية خير من صوت أم كلثوم التي تغنت بسبع  قصائد  شديدة التصوف وهم "حانة الأقدار" و "عرفت الهوي" و "الرضا والنور" و "علي عيني بكت عيني" و "صحبة الراح" و "لغيرك ما مددت يداً" وأخيرا "غريب علي باب الرجاء" التي رغم تسجليها للأذاعة ضمن الأوبريت إلا أنها لم تذع إلا بعد وفاة أم كلثوم ..! وبهذا أستقرت أم كلثوم علي عرش الغناء الديني فأصبح للشارع العربي قناعة كبيرة بأن أم كلثوم هي مداحة النبي محمد (ص) الأولي، وفي تلك الفترة تراجعت وتيرة الغناء الديني لدي أم كلثوم لتعود به مرة أخري عام 1962 بقصيدة "التوبة" للشاعر عبد الفتاح مصطفي والتي كتابها واصفاً ما يدور في خجلات النفس من تناقضات تدفعه للتوبة في نهاية المطاف .! وبعد أنقطاع دام لمدة خمس سنوات عن الغناء الديني عادت أم كلثوم لتقدم في عام 1967 وتحديداً في 4 مايو في ميعاد حفلتها الشهرية قصيدة "حديث الروح" وهي للشاعر البكستاني محمد إقبال ومن ترجمة الشيخ الصاوي شعلان، ربما يكون ذكاء أم كلثوم السياسي قد أوحي لها بأهمية تلك الفترة بسبب القرارات السياسية التي اتخذها الرئيس الراحل عبد الناصر وقد أعادت أم كلثوم بهذه القصيدة فكرة الغناء الديني الفلسفي مثلما فعلتها مسبقاً في رباعيات الخيام . وقد كررت أم كلثوم غناء تلك القصيدة في مطلع شهر يونيو 1967 من خلال حفلتها الشهرية حيث غنت ثلاث أغاني كانت من ضمنهم أغنية وطنية وقصيدة  "حديث الروح"  للمرة الثانية و"سلو قلبي"  للمرة السابعة عشر وبعد طول انقطاع عن غنائها لقصيدة الخيرة دام 9عاماً ، فكان جو الحفلة مطابقاً تماماً للشعور العام والذي انتهي بالنكسة في 5 يونيو 1967 ..! وقد شهدت السنوات التالية لنكسة يونيو نشاط كبير لأم كلثوم نتيجة سفرها الكثير الي الدول العربية واوروبا من أجل المجهود الحربي مما أدي نضوب حركة تقديم أعمال غنائية جديدة سواء كان ديني او عاطفي إلا أنها عادت لتضع قدمها مرة أخري علي طريق الغناء الديني ولكن هذه المرة بأغنية عامية صوفية وهي أغنية "القلب يعشق كل جميل" عام 1971 من كلمات بيرم التونسي والحان رياض السنباطي الذي كان هو عمدة التلحين الديني والقصائدي في عصره ويعتبر كل ما قدمته أم كلثوم دينياً كان من تلحينه ماعدا بعض أغاني أوبريت رابعة العدوية . وبغض النظر فأن أغنية القلب يعشق كل جميل كانت مرحلة جديدة من تقديم الغناء الديني ، وبرغم تدهور صحة أم كلثوم في تلك السنة إلا أنها عادت لتقدم أغنيتها الدينية الأخيرة في عام 1972 وهي قصيدة "الثلاثية المقدسة" التي كتابها صالح جودت في المقدسات الإسلامية الثلاث مكة والمدينة والقدس فكانت تلك القصيدة هي أخر عهد أم كلثوم بالغناء الديني ففي بداية عام 1973 كان توقف أم كلثوم عن الغناء تماماً حتي وفاتها عام 1975 ..! ولكن يبقي السؤال هل الغناء الديني صنعته أم كلثوم هو الذي صنعتها؟ فأنا شخصياً اتبني الموقفين حيث من الثابت عن أم كلثوم أنها بدأت منشدة كأبيها تتغني بالمدائح النبوية التي جعلتها تتقن اللغة ثم هذبت مشاعرها وقومت روح التدين بداخلها، وأيضاً أم كلثوم هي أول من غني الأغنية الدينية في القرن العشرين كله وهذا يجعلنا نتأكد بأن أم كلثوم هي من صنعت الغناء الديني في عصرها بل صنعت من كل الطبقات الشعبية مستمعين للقصائد الدينية وهذا ما جعلها محل تقدير شيوخ عصرها مثل الإمام الغزالي والشيخ الباقوري .. وسواء كانت صانعة ام صنيعة  فهي أهم من غني الغناء الديني حتي الآن ..!

                                                                                                      

                                                                                                                     كريــــم جمـــــال